-A +A
احمد عائل فقيهي
لم تعد كرة القدم مجرد لعبة ومجرد تسلية.. إنها عالم آخر اليوم، لقد تحولت إلى لعبة كبيرة أصبحت الدول تتعامل معها كرسالة ثقافية إلى العالم وجزء من هويتها الحضارية وتتداخل مع لعبة كرة القدم من خلال سلطة المال والصفقات الكبرى لهذا اللاعب وذاك اللاعب.
في الماضي كان الناس ينظرون إلى كرة القدم وبقية الألعاب الرياضية الأخرى بوصفها ألعاب تمارس للتسلية وتمضية الوقت فقط وهي نظرة ساذجة وبريئة لكن الرياضة في مجملها قائمة على تسويق من نوع آخر تسويق المواهب الكبرى من بيليه إلى ماردونا وميسي وبقية الأسماء العظيمة في لعبة كرة القدم وهي تعبير وترجمة حقيقية عن منتج هذا البلد وهذا البلد ولعل بلدان أمريكا اللاتيينية هم الأكثر بروزا في صناعة اللاعب ذلك أن صناعة الرمز في كرة القدم هو جزء من ثقافة مجتمعات أمريكا اللاتينية من البرازيل إلى الأرجنتين وبقية الدول الأخرى وهذا ما يحصل أيضا في كافة دول العالم وحيث تتساوى نجومية لاعب الكرة مع رؤساء الجمهوريات بل نجد أحيانا أن شهرة اللاعب تتجاوز شهرة رئيس الدولة كما يحدث في البرازيل والأرجنتين، فالناس تعرف بيليه ومارادونا أكثر مما تعرف رئيس هاتين الدولتين.

من خلال متابعة مباريات كأس العالم نلحظ أن لعبة كرة القدم تحولت إلى واجهة للدول والمجتمعات تعكس المزاج الاجتماعي العام في هذه الدول والمجتمعات وتبرهن ليس على حضور وقوة الاهتمام السياسي والإعلامي والاقتصادي ولكن على قوة وسلطة الإعلام والصورة.
إنني أرى أن لعبة كرة القدم وبقية الألعاب الأخرى تقوم على الإبداع والمهارة وهي مثلها مثل أي عمل إبداعي آخر.. اللاعب مبدع وماهر مثله مثل أي مبدع وماهر في أي مجال.. ليست لعبة كرة القدم مجرد ركل كرة بين أقدام اللاعبين لكنها لعبة قائمة على المهارة والإتقان والحرفية العالية لأن كرة القدم وبقية الألعاب مؤسسة اليوم - إضافة إلى وجود الموهبة عند اللاعب - على دور الأكاديميات والمعاهد والمدربين الماهرين لأنها تحولت إلى علم وممارسة؛ ذلك أن الموهبة اليوم لا تكفي لكي تكون لاعبا ماهرا ومبدعا وكبيرا وتحمل رمزية المبدع بكل ما تعنيه هذه الرمزية من معنى وعندما يقال اللاعب «الأسطورة».. فلأن الوصول إلى هذه اللحظة «الأسطورية» تأتي من خلال حجم المنجز الحقيقي للاعب فنيا وحركيا ومهنيا والمهارات اللافتة من حيث تمرير الكرة وإيصال الكرة إلى هدفها.. بدقة وإتقان أي إلى الشباك..
إن كرة القدم وبقية الألعاب الأخرى ليست مجرد مشهد عبثي سريالي كما ينظر إليه كثير من المثقفين بنظرة متعالية.. إنها فن راق وحضاري وبمجرد النظر إلى مشهد الملعب والحضور الجماهيري وجمال الملعب وبهاء المنظر العام لهذا المشهد وهذا الحضور من رجال ونساء هو عمل مسرحي وسينمائي.. وثقافة تتحرك على الأرض من خلال عقول تفكر قبل أن تركل هذه الكرة الملونة الساحرة المجنونة وهذا المشهد الذي نراه هو من أجمل وأبهى الأشياء إنه نتاج عبقرية؛ ذلك أن كرة القدم هي المشهد الأكثر بهاء وبياضا من المشهد السياسي والعسكري وكما قال الشاعر الكبير الراحل محمود درويش «إن الرياضة هي أنظف الحروب».. لأنها تمثل حربا حقيقية داخل المستطيل الأخضر لكنها الحروب النظيفة في قمة حالاتها وتجلياتها.
الرياضة علم وثقافة وحروب وصراع ورسالة حضارية.. الثقافة ليست أدبا ورواية وشعرا ومسرحا وسينما فقط.. كل شيء هو جزء من منظومة عامة وشاملة والرياضة جزء أساسي ورئيس من هوية وحضارة وإبداع وثقافة الشعوب والمجتمعات وكرة القدم من أجمل الظواهر الإنسانية وكل البشر يختلفون على كل شيء إلا أنهم لا يختلفون على عشق جنون وعبقرية هذا اللاعب أو ذاك.. العبقرية جنون وإبداع وابتكار واللاعب الموهوب هو عبقري بامتياز.
ما أود أن أصل إليه أخيرا أن الرياضة تمارس وفق استراتيجيات وليست مجرد نشاط رياضي.. إنه نشاط يتم تنفيذه وفق رؤية استراتيجية للدول وهناك دول ليس لها تاريخ رياضي.. وتحديدا في كرة القدم ومع هذا فإنها تبحث عن تاريخ ودور داخل هذا المستطيل الأخضر الذي يمثل منصة انطلاق للعالم لدول مغمورة وضائعة في الخريطة ومجرد نقطة صغيرة في هذه الخريطة وهو ما يؤكد أن تطور الدول والمجتمعات ليس بالتقدم الصناعي والتقني والعلمي فقط. ولكن لابد من البحث عن فعل حضاري آخر هو الفعل الرياضي ومن خلال هذا الملعب ولكن وفق رؤى وخطط واستراتيجيات يصنعها رجال يفكرون ويخططون ويعملون.
إن لعبة كرة القدم مشهد عظيم ومضيء.. مشهد ثقافة وإبداع الدول والمجتمعات مجسدا في إبداع وعبقرية الفرد وهو هذا اللاعب الموهوب والعبقري.